اصدار جديد *بديعة الراضي وكيمياء الفضاء في رواية غرباء المحيط* للكاتبة صباح أبوشاقور ام هارون باحثة أكاديمة من ليبيا
بديعة الراضي وكيمياء الفضاء
في رواية غرباء المحيط صباح أبوشاقور باحثة أكاديمة من ليبيا
سعى نص “تيه وغضب” منذ البداية إلى فرض المكان الواقعي المسردن لتسليط ضغط مقصود على سياسة القراءة، وانتهت إلى رسم خارطة فضائية سردية لبحر المحيط، تصلح دلالياً لإدراك المدينة إدراكاً بصرياً حيث:
“كانت الرباط ذلك الصباح باردة.
قال جليسي إن الثلوج سقطت بكميات كبيرة في الجوار،
والسلطات لم تعلن عن عدد المحاصرين والمفقودين،
وأن هناك فيضانات جرفت معها مداشر
وأغلقت الطرق المؤدية إلى قرى واقعة في أعلى الجبل.
في ذلك الصباح كان بحر المحيط هائجًا جدًا.”
توزعت مفردات المكان على خارطة السرد توزيعًا كثيفًا، لخلق بانوراما الفضاء. ولا تتوقف لعبة التشخيص على حد المكان بل تتعداه إلى مستوى آخر هو ذكر المحاصرين والمفقودين، إذ أسهمت في تكوين الوجدان العاطفي والإنساني لأبناء الوطن.
على ضفاف هذا المكون الشخصاني الميدان الرحب الذي تتوه فيه الساردة فلا تدري الاتجاه الصحيح لمواجهة السير، تؤثثها المفردات (فيضانات، جرفت أغلقت، أعلى الجبال، هائجًا) إذ تغدو دالًا رمزيًا على معاني الحيرة والقلق والغضب، يشتغل مكوَن أخر المكان المغلق حتى تصل إلى الدروب وهى المداخل الضيقة الحاملة لسقوف العجز والضعف يشيدها معطف التيه “ارتديت معطفًا لا أدري هل هو لي أم لأحد أفراد عائلتي.
بدا حذائي مستعصيًا وأنا أضعه في قدمي.هرعت إلى باب منزلي.
المفتاح لا يدور في دائرة القفل،تكسر المفتاح وأنا أضغط عليه بقوة.
توجهت إلى السطح الخلفي تسلقت السور الفاصل بيني
وبين جاري الأسباني.
لم أستأذنه.بدأ
يحتج بإسبانيته المزعجة السور يفصل بين سطح بيتي وبيته المؤدي
للشارع الباب الحديدي لم يكن مقفلًا بمفتاح.فتحته بسرعة.
تركت الباب مفتوحًا.
وجاري يحتج بقوة.”
تنسج المشاهد خيوط تقاطبية الانفتاح/والانغلاق، من خلال شبكة العلاقات التوترية فيما بينها،فإن كانت الفضاءات في استهلالية النص قائمة_عمومًا_على الانفتاح،فإنها في الوسط مشدودة نحو الانغلاق(المعطف-الحذاء-الباب-البيت-دائرة القفل-السور-السطح). هذا التوتر المكاني يدفع البطل والقارئ إلى حالة (بين بين) باعثة عن القلق الذي يولد فضاء عتبة، أو ما يسميه باختين الكرنوطوب.
على مستنقع هذا المشهد تطفو أوراق قلق السياق،يدعمها الفضاء المكان المغلق(الباب –السور-السطح)كحافز بمفهوم تشوفسكي، لأن علاقة الصراع والمواجهة بين الأنا ولأخر من أجل استرداد سبتة ومليلة، تظل هي الحافز الرئيس المسيطر على شبكة الأدوات الفنية في شكل النص بوجه عام.
ففي البداية كانت المغامرة فاشلة في خوض معركة الحواجز والفواصل، تخدشها تضاريس انكسار المفتاح واحتجاج الإسباني، أما نهاية المشهد فنلحظ قلق السياق واختلال النظام بتكرار المغامرة ومحاولة المواجهة من جديد، رغم المخاطر التي واجهت البطل وهو يتسلق السور الذي وظف كرمز للحدود الفاصلة بين المغرب وأسبانيا.
هذا الحافز كان بمثابة المؤشر القوي في رغبة البطل لاسترداد الجزء الذي اجتثى من الكل الوطن.
إن ما يشد الانتباه في نص” تيه وغضب” مظاهر الترميز، بوصفه الإيحاء غير المباشر للكشف عن النواحي النفسية المستترة، التي لا تقوى على أدائها اللغة في دلالاتها الوصفية، وهو الصلة بين الذات والآخر، بحيث تتولد المشاعر عن طريق الإثارة النفسية لا عن طريق التسمية والتصريح.
تطفح معالم الترميز، فيما يمكن أن نصطلح عليه بمؤثثات الوطن، ومكوناته إذ تغدو هذه المؤثثات عنصر من عناصر الوطن المقدس الحاملة لشحنة المغامرة السردية المسكوبة في وعائه والجارية في شرايينه، يلفها فضاء البحر بتموجاته العنيفة إذ:
“يضرب الموج الصخور. كل أمكنة أهلي في حي المحيط غطاها الماء.
وضباب كثيف يلف البحر والسماء.
لا أدري ما حل بأهلي. ربما كانوا نائمين عندما ارتفع موج
البحر.أو ربما ارتفع الموج فجأة وجرفهم إلى قاع البحر.”
تكمن عبقرية المشهد في دلالة الماء،فهو رمز للحياة والموت معاً، بل إنه استثمر استثماراً مغايراً قلما نجده في روايات أخرى، فبديعة الراضي قد تجاوزت السرد التقليدي في دلالة البحر، يبدو ذلك في قوة اختيار الحقول المعجمية المؤثلة لطوفان الفضاء وعنفوانه، (يضرب – غطاها – ضباب كثيف- يلف- ارتفع-جرفهم)، فكل هاته المفردات وردت كمعادل دلالي على طوفان الماء من كل حدب وصوب، إلى الحد الذي طغى فيه عنفوان فضاء البحر على أفق السماء.
كما وظف أيضاً للدلالة على المتناقضات النفسية والمعاناة، وكرمز للأمل عندما يبلغ اليأس مداه، فهو الصندوق الذي لا يفصح عن سريرة، ولا يعاقب عن جريرة. فقد احتمى به البطل، ولكن لم يحظ باحتمائه، لدى ظل أفقه الشاسع مبهماً وعنيفاً عند طوفان الفضاء، واكتساح الضباب سماءه.
لا شك أن مجازية البحر بكل مكوناته اللطيفة والجارفة، قد سلطتها بديعة على أحرف الكتابة، حتى ليغدو بساطاً عندما يطرح في سوق الرهان مع السماء”وضباب كثيف يلف البحر والسماء” في مواجهة البطل.
على ضفاف هذا الطوفان الفضائي، يخوم على البطل أعراض الحيرة والتساؤل عن غفلة الأهل الذي جرفهم البحر إلى قاعه. هل هو النوم؟ أم ارتفاع الموج فجأة؟
لقد كانت العرب تسمى النوم موتاً وتسمى الانتباه حياة، وهنا يحق لنا التساؤل حول حالة الموت التي ألمت بالشعب، فهل استراح؟ أم أنه اضطهد وقهر وسقط في غيابات الجب؟
لا يتوقف المحكي المكاني عن ارتباطه بفضاء البحر، إذ يوحي الماء بالتطهير والتعبد ومنبع للحياة والانبعاث، أي تحوله إلى طاقة سحرية تمتلك كل مفاصل النص بما في ذلك معطف المواجهة:
” تبلل معطفي بالماء. ازدادت الأمواج ارتفاعاً وبدأت الأمطار تتساقط
بكثرة.لم أعد أرى شيئاً. تابعت سيري في الطريق المجاور. انتفخت
قدماي من شدة البرد، وأحسست بصداع قوي في رأسي بعدها. لم أعد
أدري أين أنا.”
توظف الساردة أداة الوصف الذي يحرف، حسب تعبير فليب هامون الواقع ويخلخل تمركز البنى المنطقية للملفوظات السردية، ويبلبل مقروئية المحكي، إنه يقدم الفضاء الذي يحتضن المغامرة المقبلة، بيد أن توغله في نقل تفاصيله(ازدياد الأمواج- سقوط الأمطار- السير في الطريق- انتفاخ القدمين- البرد- الصداع) يؤدي إلى تحويله له مغامرة في حد ذاته يلتقي بها البطل، ذلك أن ذكر محمولات المنظومة الوصفية، ليس ترفاً بلاغياً يحشد مؤثثات الفضاء،بل إنه دعوة إلى قراءتها ضمن السياق التداولي للعملية الوصفية، إذ تؤدي إلى تفاعل عناصر عديدة تؤسس تقاطبية الأمكنة المفتوح والمغلق/ الضيق والواسع/العالي والمنخفض/النور والظلام، وتتصادى حقولها الدلالية، مما يجعل البحر فضاءً عدائياً يليق بتنفيذ الثورة والغضب.
يدفعنا الوصف إلى تطعيم التقاطب بين البيت الأصلي، والفرعي بثنائية جديدة هي الظلمة والنور، كعنصرين فيزيائيين يهيمينان على الفضاء الروائي وذات الساردة حيث:
” فتحت عيني على سقف لا يشبه سقف بيتي. غرفة بدون نوافذ. ثمة ثقب
دائري يتسرب منه ضوء. حاولت النهوض. لم أستطع حاولت مرة أخرى.
سقطت أرضاً من فوق سرير خشبي قديم وفوقه غطاء ممزق لا يستر
لوحاته الخشبية التي تنبعث منها رائحة كريهة بسبب غياب الهواء في الغرفة.”
يعد المكان المغلق الغرفة بهذا الوصف، ممسرحاً للإقامة الجبرية غير محددة المدى من جهة، وإطاراً كسجن نوعي في لبوس منزل سكني مظلم من جهة أخرى، يكشف ظاهره عن قيم العتامة والتفاقم، بينما يضمر قيم الحجز والإلزام.
والنتيجة أن صورة المكان التي عرضها المشهد تحمل الالتباس، بسبب الانزياح عن مرتبة البيت الاعتيادي “غرفة بدون نوافذ، ثمة ثقب دائري، لوحاته الخشبية التي تنبعث منها رائحة كريهة”، وحملها لدلالات صورية مركبة تسهم في إنشائها معاً عناصر القيم المنزلية والقيم السجينة، وتخيم عليها الظلمة، إذ تبدو الأخيرة حاجزاً يقف دون وضوح المكان(الغرفة) أو مقروئيته.
وتتكاتف الحبكة الدرامية عندما يتولد الأمل من رحم المعاناة، فيستبدل السقوط بالصحو:
” بدأت أصحو شيئاً فشيئاً. بدأ الألم يرحل عن رأسي تدريجياً. فتحت عيني.
كان هناك ظلام. فجأة فتحت الغرفة. ظهرت امرأة بشمعة في يدها اقتربت
مني. كشفت الشمعة عن ملامحها. من؟ إنها سميرة. من أتى بهذه المرأة
إلى هذه الغرفة؟”
ينتاب فضاء الغربة التبدلات السريعة فمن الظلمة إلى النور، وذلك إثر انبعاث الشمعة كدال رمزي على الحرية، فحينئذ يلحق البطل الشعور بالرغبة من جديد لاسترداد الأرض.
وبتوظيف بديعة لشخصيات أخرى(سميرة)كمعادل موضوعي للدلالة على الوطن، تغدو بنيات تمثيلية لأبناء البلد المخلص وحبهم له، للذود عنه حينما تراءى مشهد الوشوك على الموت والضياع”سقطت أرضاً…” المؤثث لسقوط سبتة ومليلة في يد الأسبان، وظهور الأخر المخلص سميرة، التي تلعب دور المساعد في مربع جريماس الشهير، إذ تشحن النص بمزيد من الدرامية المؤسسة لمفارقة الحدثين(السقوط+الصحو)، والمشتتة لأفق توقعات المتلقي، الذي ما إن يلقى ذاته في حضن اليأس مرفوداً بمشهد المواجهة الأحادية،حتى يجد من يأخذ بيده( شخصية سميرة)، بحثاً عن طاقة النور الشمعة التي تراهن على الفرد وما يتمتع به من قدرة على تغيير العالم، وجلب حقوقه وثرواته.
ويتضاعف الأمل في زمن ولادة جديدة ترسمها بديعة في لوحة مشمسة تصارع طوفان الفضاء المظلم، الذي ظل غائماً:
“شمس الرباط ذلك الصباح ثائرة ضد كل الغيوم التي غطت المحيط
في أسابيع عديدة. البحر مثل البساط الأزرق. كل سكان حي المحيط
هرعوا إلى صخورهم يتفقدونها. كنت واحدة من هؤلاء. كانت الوجوه
مشرقة إنه الربيع آت. ولحظات استقباله نابعة من عيون أهله
واخضرار الصخور وبعض الرمال المتفرقة في جوانب بحر المحيط.”
فالشمس عند بديعة لا تكون إلا نوراً، فهي قلب العالم والكل كواكب سيارة. ولعل دلالة الشمس وأبعادها تثار من خلال ارتباط صراع الشمس بغيوم المحيط، المؤثلة لجحيم المعركة وضرواتها.
فالشمس حلم الشعوب والأوطان، إذ تقودنا دلالياً إلى الحلم في البقاء والعيش الكريم، ومحاربة الظلم وامتلاك الأرض. ويعد الحدث المفصلي في المشهد وهو شروق شمس الصباح، بمثابة إحياء للنص تعتلجه إيقاعية تمده بالحيوية((قدوم الربيع-اخضرار الصخور والرمال)، فدون هذا المشهد الدرامي المؤسس على الإظهار كان يوشك على الانتهاء وفق شفرة سوداوية. مما يدعم أن الفضاء يأتي لخدمة المحكي عمومًا ولتبرير استمرارية الرواية بشكل خاص.
يقدم الفضاء هدنة سردية، تكتسب رصانتها من طابعها الشعوري القائم على منازلة أخلاقيات المتلقي الماثلة في التشجيع على استرداد سبتة ومليلة المغتصبتان، كما يشيد سقوف العلاقة السيميولوجية الكبرى لما تتصف به الكاتبة من شجاعة وجسارة فــــــــــ:
“الحذاء الرياضي الذي وضعت قدمي فيه
يسعفني لمواصلة البحث عن حمان وحمدون،
أكيد أنهما سيعودان.”
بيد أن هذه الهدنة تظل ضرورية لإحداث المفارقة الدرامية، عندما نلحظ السرد ينتهك الخط الدرامي للحدث، وذلك عبر توظيف معادل الحذاء الذي أخذ منحى مغايراً عن بداية النص، يتمثل في طبيعة العلاقة بين حركة الحذاء الدائبة والمصيرية على الأرض، لا سيما أن الحذاء وظف هنا بوصفه رياضي، مما يحمل البطل على مواكبة المعركة والبحث عن حمان وحمدون، كشخصيتين دالتين على سبتة ومليلة، التى تسعى بديعة إلى استرجاعها من شباك الأسبان.
ويتمطى الأمل وتتفاعل المواجهة كيميائيًا، عبر طوفان الفضاء وصموده ضد تيار المياه المتوقع اندفاعها لولا:
“الصخور المنتصبة في وجه المياه الزرقاء تغري بالعودة العاجلة.
ربما كانا هناك في العمارات القديمة الآيلة للسقوط.
اختبأ أيام الصقيع وانتظرا فرصة مجيء هذا اليوم المشرق.”
تخترق الصخور معاني الكبرياء والصمود والتحدي، فالغربة وحبٌ الوطن ينمي الإحساس بالوطنية، ويؤكد ضرورة وجود علاقات اجتماعية عادلة، في يوم الغد الذي تستشرفه الكاتبة.
هذا يقودنا إلى طرح السؤال الآتي:
لماذا الفضاء في رواية غرباء المحيط؟
إن إشكالية طرح بديعة الراضي للفضاء، يؤثث للإفراغ الإيديولوجي، الذي تنتجه من خلال رصد المفارقة بين الخطاب والفعل المعيش وفي الممارسة السياسية. إفراغ تبلوره آليات الكتابة الأدبية، وتستلزمه جدلية الربط بين المعرفي والثقافي والإيديولوجي والسياسي، إذ نعايش في روايتها أنها فعل أساس في استيعاب تبدلات الواقع المغربي والتأثير فيه. من خلال أفق التغير وفهم الصيرورة، ترسم كل ذلك بريشة ميلودرامية، غارقة في طوفان الفضاء التقاطبي، المؤثل لاسترداد الجزء الضائع من الوطن.