الحسن مرزوق يكتب عن الشعر الحساني والذوق الجمالي
ابابريس : قسم الاخبار
بقلم المهندس/ الكاتب والباحث في قضايا التراث الحساني
الحسن مرزوق
تحتفل البشرية في جميع أقطار المعمور في 21 مارس من كل سنة باليوم العالمي للشعر الذي اعتمدته منظمة اليونسكو سنة 1999. وهي مناسبة للاحتفال بالشعراء رجالا ونساءا الذين كرسوا حياتهم وإبداعهم للدفاع عن القيم النبيلة المتعلقة بالجمال والسلم والحب والحرية. ولعل ما ميز سنتي 2021-2020 انتشار وباء كورونا- كوفيد 19 عبر العالم وما ترتب عنها من انعكاسات سلبية على العطاءات والإبداعات الشعرية والفنية بصفة عامة.
الغرض من هذا المقال ليس البحث عن تعريف الجمال في فلسفة الفارابي أو فلسفة إبن سينا أو فلسفة يوسف كرم الذين ميزوا بين الجمال كوجه من وجوه العالم أو كوجه من وجوه إدراك الإنسان للعالم، وبين الفن كإبداع إنساني لأشياء جميلة.
ما يهمنا هنا في هذا المقال هو الطرح الأخير الذي يرتكز على الإبداع الإنساني خاصة الدوق الجمالي في الشعر الحساني الذي يشكل العمود الفقري في الثقافة الحسانية العريقة.
الشعر الحساني أو ما يطلق عليه بالحسانية ب لغن الحساني هو نمط من أنماط الأدب الشعبي العربي. يغنى غالبا وهو مرتجل ويحفظ ولا يدون، عكس الشعر الفصيح الذي يكتب ويحفظ ويدون.
الشعر الحساني على غرار الشعر العربي الفصيح له بحور. أصحابه ورواده هم الناطقون باللهجة الحسانية. أصل كلمة حساني من اللهجة الحسانية التي يعرف بها أهل موريتانيا والصحراء المغربية أو ما يعرف بالبيضان .
موضوعات الشعر الحساني (الغزل، البكاء على الأطلال، الهجاء، المديح، الموال، التبراع…).
أهم القواعد التي تمتاز بها القصيدة الشعرية الحسانية هو أوزانها وأبحارها الموسيقية التي تعتمد على “الكاف” الذي يعتبر أصغر وحدة شعرية في القصيدة تليها “الطلعة”، ثم “التهدينة”.
وفيما يخص الدوق الجمالي للشعر الحساني، هناك نوع خاص تتميز به النساء الحسانيات المعروف ب “التبراع”.
هذا الإبداع الشعري هو نموذج ل”عالية ماء العينين “، الذي هو في الأصل شعر غزل النساء بالرجال الذي هو عبارة عن حالة عاطفية مجردة تشعر بها المرأة أمام حب له إحساس خاص للرجل لا يشد المقابل ولا يطلب الاعتراف به، على سبيل المثال:
وَأَنَا فُؤَادِي طَارِي لُ شِي مَاهُ عَادِي (هذا البوح تشعر المرأة أن فؤادها طرأ عليه أمر غريب).
وَنْبَانْ ذَا الْعَامْ تْعَلَّمْنَا مَعْنَى الْغَرَامْ ( يبدو أننا هذا العام تعلمنا معنى الغرام).
وَشْبِيَّ مَا نَنْسَاهْ لاَ يَعْلَمُهُ إِلَّى اللهْ (السبب في عدم قدرتي على النسيان لا يعلمه إلا الله).
حَكْلِ يَاَخِي عُودْ اكْرَبْ لِ مَنْ ذَاكْ شْوِيْ (بحق الله، كن أقرب لي من أنت عليه شوي).
لقد لعب الشعر الحساني مند القدم دورا محوريا في التواصل بين الشمال والجنوب، فالشاعرات والشعراء الحسانيون كانوا منذ زمن سحيق من دعاة مقاومة الاستعمار وتفشيل مساعيه ومعبرين عن آلام القبائل وعن آمالها في غد مشرق وحياة كريمة.
وهكذا أصبح الشعراء والشاعرات الحسانيون مع إشراقة شمس الوعي بوقا تتردد فيه صيحات المناضلين باسم قبائلهم ومجتمعهم داعين إلى الحرية والاستقلال والسيادة. فراح بذلك كل يعبر عن هذا الشعور بأسلوبه الخاص. وقد برز في هذا الغرض من الشعر الحساني شعراء وشاعرات أفذاذ، نذكر منهم:
سلامة ولد اجدود- ارويجل ولد امبيريك- سيد أحمد ولد مليح- محمد ولد محمد سالم ولد عبدالله- السيد ولد يوسيف- الكفة بنت عبدالنبي- لخويدم بنت عبدالنبي- بوجمعة ولد عبدالنبي- رمضان ولد بوجمعة ولد عبدالنبي- ابراهيم ولد بوجمعة ولد عبدالنبي-عبدالحي ولد بوجمعة ولد عبدالنبي- عبدالرحمن الشنكيطي- محمد السويح- بالمحجوب ولد الطيب- السالك اليزيد- محمد معروف ولد اصم- سيداتي ولد الشيخ حمد الهيبة- ولداد ويهي- العرابي ولد رمضان ولد بوجمعة ولد عبدالنبي-علوات ولد بوجمعة ولد عبدالنبي ، وغيرهم ممن لا يسع المجال لذكرهم.
ولا بد من التذكير هنا كذلك على أن الشعراء والشاعرات الحسانيون قد قاوموا بشراسة الاستعمار الفرنسي والإسباني، خاصة عند نفي رمز السيادة والتحرير جلالة الملك المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه ووارث سره آنذاك جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني قدس الله روحه رفقة الأسرة الملكية الشريفة. كما ساهموا ومازالوا يساهمون إلى اليوم بالقصائد الشعرية المتعددة في المناسبات الوطنية، من قبيل: الاحتفال بذكرى عيد المسيرة الخضراء المظفرة، وذكرى ثورة الملك والشعب، وذكرى استرجاع سيدي إفني وطرفاية ووادي الذهب.
هناك، في الوقت الراهن، عدة مدارس في الشعر الحساني في المغرب وموريتانيا، ففي موريتانيا مثلا نجد مدرسة الهدار، وفي الصحراء المغربية نجد عدة مدارس من بينها مدرسة أهل امليحة، ومدرسة السراخ ولد أحمد علي ومدرسة أهل عبدالنبي. هؤلاء لهم باع كبير في الشعر الحساني.
سنتطرق فيما يلي إلى تقديم بعض المقتطفات من القصائد الشعرية، يقال لها بالحسانية “الكاف” أو “الطلعة”، لبعض الشعراء المنتميــن لمدرســــة أهـــل عبدالنبي الذيـــن كان لهـــم ” شــور” أي “موال” يغنــون بــــه ” يَاتِيزْنِيتْ انْدُورْ انْزُورَكْ “، وذلك للاطلاع عليها والتمتع بدوقها الفني والجمالي ، والتي هي ، حسب كل شاعر، كالتالي:
الكفة بنت عبدالنبي
– كَانْ الدَّلاَّلْ مَنْ التَّحْجَالْ مَرْتَدْ أٌوحَاشَا مُولاَنَا وَاصْبَرْ يَالدَّلاَّلْ اعْلَى حَالْ أَلاَّ لَعْكُوبَة لَلْفَانِي.
” الدَّلاَّلْ ” أي العقل.” من التَّحْجَالْ ” أي من التفكر.” لَلْفَانِي ” أي لابد من الموت.
– الْعَبْنَا حَتَّى، وَاضْحَكْنَا، غَنِّينَا، وَانْكَالْ اغْنَانَا، وَالْيُومْ اللهْ يَثَبَّتْنَا اعْلَى ذِكْرَكْ يَامُولاَنَا.
لخويدم بنت عبدالنبي
هَذِا الْمَدْحَة يَغْلَى غِيدِي… زِينَ حَكْ أُومُدَوَّانَةْ
هِيَّ سَرْحِي وُمَرِيدِي… وَلاَّ دَاكْ اللِّي بَكَّانَة
” يَغْلَى غِيدِي ” أي ياأغلى الناس عندي. أُومُدَوَّانَةْ ” أي معروفة.” هِيَّ سَرْحِي ” تتغنى بها عند رعي المعز.” وُمَرِيدِي ” هي مورد الماء.
بوجمعة ولد عبدالنبي
عِيبْ لَمْنَادَمْ مَا يَعْلَمْ بِيهْ… إِيلُّو هَنْتَتْ وَيخْصَرْ دِينُو
وَالْعِيبْ اللِّي غَيْرُو حَصِيهْ… يَلاَّلِي مَا مِنْيتِن عِينُو
رمضان ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
الْحَادَثْ مَا عَنْدُو قُوَّةْ …لاَ قُوَّة كُونْ لْمُولاَنَا
نَبْكِي بِيَّ مُوتُو هُوَّ… اسْكِي مَنْيَتْنِي كَاعْ اَنَا
ابراهيم ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
يَلاَّ لَ حَشْمَتْ ذِيكْ الرُّوحْ…جِيتَكْ مَتْعَنِّي بِكَانْ
وَقْتَنْ اللِّي جِيتْ اجْبَرْتَكْ مَطْرُوحْ … مْوَدَّعْ زَادْ لَّ مُولاَنَا
– يَاسَالَمْ لاَّ يَكْلَعْ مْزَاكْ…كَدْ امْنِينْ اتْكَزْ حْفُولَكْ
نَكْدَرْ نَحْكَمْ لْمَرَدْ أُورَاكْ…مَا دْخَلْ ذَاكْ اللِّي دُونَكْ
” لْمَرَدْ ” هو الطريق.
عبدالحي ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
إِجُوكْ الرَّدَّاتْ مَنْ الجِّيبْ …واتْجِيكْ الْكَحْلَة وَالْبِيضَة
وَاعْلِيكْ انْكَبُّوا لَمْحَاجِيبْ…الْكَلْتَة وَاتْجِيكْ الْفِيضَة
علوات ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
-بَدْعِي مَا هُوَّ مَنْ لَحْثَالَة… تَعْلَمْ بِهَا كُلْ ازْمِينَة…
وَانْخَلُّو زَادْ الرَّجَّالَة فِي اغْنَاهُم مُدَبْدَبِينْ
” بَدْعِي مَا هُوَّ مَنْ لَحْثَالَة ” أي ما هو من شيء بسيط.” تَعْلَمْ بِهَا كُلْ ازْمِينَة ” أي كل زمان.
– اهْدِينِي يَاللَّهْ وَاسْكِينِي… عَنْدْ انْهَارْ طْوِيلْ مْغَمَّمْ
تَتْبَرَّى عِينِي مَنْ عِينِي… لَعْظَمْ يَتْبَرَّى مَنْ لَعْظَمْ
ماء العينين ولد عبدالحي ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
مَا انْصَابْ السَّحْبْ اللاَّ يَلَفْ عْلَى ذِي لَرْضْ ابْطِيحَة وَادِي الطَّلْحَة وَكْنِي يَدْلَفْ أَفُودْ وُلَكْزِزِيحَة.
” أَفُودْ وُلَكْزِزِيحَة ” مواقع ما بين طرفاية والعيون في الجهة الساحلية.
لحبيب ولد ابراهيم ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
يَاوْلِي دَادَمْ سَادَكْ تَنْدَمْ مَا نَفْعَكْ خُوكْ أُولاَ جَارَكْ…اتْرَكْ هَمْ الدَّنْيَا…وَاخْدَمْ لْدَارْ اللِّي هِيَّ دَارَكْ.
” يَاوْلِي دَادَمْ ” أي يابني آدم.
العرابي ولد رمضان ولد بوجمعة ولد عبدالنبي
العرابي كان يجاور “أهل الحيرش”، جورة مانعة، يذكرها التاريخ، المحبة والأخوة الصادقة إلى درجة أن الحيوانات، عندما أراد أهل العرابي والحيرش أن يرحلوا، لا تريد أن تنفصل لا الإبل ولا الغنم ولا المعز بل حتى أفراد العائلة. هذا ما سمعته من الشاعر لحبيب ولد ابراهيم ولد بوجمعة ولد عبدالنبي. كانت بينهم محبة يضرب بها المثل. وهذه طلعة كتبها العرابي بهذا الخصوص:
“” يَارَبِّ عَاكَبْ جِيرَانِي، مَانِي مَثْمُونَكْ فَدْهَانِي وَسَّعْ لِي صَدْرِي يَكَانِي، نَعْرَفْ ذَاكْ الْبَايَدْ بِيَّ، مَنْ دَمْعْ الْعِيْ الْهَدْرَانِي، مَنْ غَدُّو أُولاَ عَنْدِي نِيَّة وَانْتَ تَعْرَفْ يَاكْوَانِي اَنَا كَدْ الْوَاقَعْ فِيَّ ،حَامَدْ لَكْ دَاكْ اللِّي جَانِي ، أُوخَفَّفْ مَا قَدَّرْتْ اعْلِيَّ، يَارَبِّ لَيْلَةْ تَلْقَانِي فِي الدَّارْ اللِّي فْرَضْ اعْلِيَّ، تَخْلَفْ لِيَّ يَالَّلهْ جِيرَانِي كِيفْ دُوكْ اللِّي احْسَنْ فِيَّ “.
ويتضح من خلال “الطلعة” السالفة الذكر و”الكيفان”، و”التبراع” التي سبق لي أن أعطيت أمثلة حية بشأنها ، أن الذوق الجمالي للشعر الحساني بقى حاضرا بقوة من خلال المواضيع والأوزان والبحور التي يتميز بها، غير أنه يحتاج إلى الرعاية اللازمة من أجل المحافظة عليه وتطويره وتحسين جودته.
إن الرعاية والمحافظة على التراث الحساني تتطلب بدل وإيجاد حلول ناجعة وملائمة لعوامل القصور، التي يمكن تلخيصها كالتالي:
-1 ندرة التدوين ،
-2 الاعتماد على الحفظ وقوة الذاكرة في المحافظة عليه،
-3 نقص في استعمال وسائل تقنيات التواصل الحديثة (خاصة الرقمنة؟)،
-4 غياب معاجم لغوية لتحديد وتفسير وترجمة المصطلحات والكلمات المستعملة في الشعر الحساني،
-5 بروز مشاكل العصر والانفتاح على العالم الآخر لم تساهم في تطوير التراث الحساني وإعطائه المكانة التي يجب أن يتمتع بها ،
-6 الكتابات في الشعر الحساني لا تزال تعاني من نقص كبير وندرة في الموضوعات التي تتناول العادات والتقاليد الصحراوية والنساء الصحراويات،
-7 ندرة الدراسات والأبحاث العلمية والأدبية المهتمة بالشعر الحساني.
هذه العوامل وغيرها مما يضيق المقام عن ذكره، قد تؤدي لا محالة، في حالة إذا ما استمرت، إلى التأثير بشكل سلبي على الذوق الجمالي للشعر الشعبي الحساني، وإلى ضياع جزء هام من تاريخ والثقافة الحسانية.
من باب الختم، يمكن القول أن الشعر الحساني في حاجة اليوم إلى وقفة تأمل من أجل إرساء أسس ثقافية تراثية صلبة أصيلة في ظل تبدل القيم والأخلاق لمواجهة الآثار السلبية ومواكبة الانفتاح والعولمة، ويحتاج في الوقت الراهن إلى دراسات وأبحاث علمية وأدبية، ومعاجم خاصة به، وإلى الدعم المالي والمادي والمعنوي الكافي لمدارس الشعر الحساني التي خلقت من أجله، وإلى جمعيات المجتمع المدني التي تمارس نشاطها بخصوصه، وإلى توجيه ومواكبة الشباب والأطفال لتمكينهم من استيعاب تقنياته ومناهجه وطريقة تأليفه وتلقينه.
هذا كله من أجل المحافظة عليه والنهوض به لكي تتمكن الأجيال الصاعدة من تطويره والرقي به والرفع من جودته شأنه في ذلك شأن باقي التراث الثقافي العالمي التي تسهر على تدبيره منظمة اليونيسكو.